* ونحن صغار كنّا نحن الأخوة نسيء لبعضنا البعض، مازلنا نفعل لحد الآن، وكان والدي يتوعدنا بالعقاب، نكون في منأى عن العقاب مادام لم يقسم بالله على أن يفعل، أحياناً يتوعدنا بالضرب ويدخل غرفته للقيلولة، كنتُ أتمنى أن ينام والدي وينسى قسمه، أكتشفت أنني لم أكن أخاف منه بل من الكلمة ذاتها، والدي ضعيف دون هذه الكلمة، لا يستطيع على شيء بدونها. رغم أنه لم يكن يلجأ إليها كثيراًً، إلا أنها عندما تخرج من فمه تشعر أنها رصاصة لا يمكن أن تخطئ طريقها، وعليك أن تبقى ثابتاً لتتلقاها، أفضل من أن تهرب وتصيبك في أماكن لا تتمناها، مجرد أن يقولها أشعر أن كل الأشياء في طريقها إلى الحدوث، ولا يوجد ما يعيقها عن ذلك، كنتُ أستسلم لها وأرمي أرضاً أسلحتي من العناد.
عند آخر حرف لقسمه -والله- تبدأ أختى نرجس بالبكاء قبل أن يضع والدي يده عليها، الباقون يهربون، يفضّلون تأجيل العقاب، فيما أنا كنتُ أسرع إلي والدي لآخذ نصيبي من الضرب، كان الوقت الذي أقضيه في القبو أفكر في يد أبي وهي تنزل عليّ وقتاً عصيباً، إن سمعت باباً صفّق يرجف قلبي وإن سمعت وقعاً للأقدام نزلت دموعي، ولهذا قرّرت أن أستعجل العذاب وأتجرّعه مرة واحدة.
كنت أكثر من يتلقى شتى أنواع العقاب، فعندما أصل إلى والدي وهو في فورة غضبه يتفاجأ، كان يعتقد أنها شجاعة، بعض الشجاعة إستسراع للنهاية، عندما أثبت أمامه يسألني: ماذا تريد؟ ثم لا ينتظر مني إجابة وينهال عليّ ضرباً، على عكس إخواني الباقين الذين يقفون بين يديّ والدي وهو في قمّة هدوئه فيعاقبون بشكل بروتوكولي، كنوع من التمثيل، التزاما بـ والله وهربا من الحنث.
* جاري أبيض البشرة لا يطيق جاري الآخر أسمر البشرة، عندما يلتقيه في المسجد أو في مقهى الحي يهرب منه، وأحيانا عندما لا يكون بإمكانه الهرب يضغط على أعصاب رأسه حتى لا يفكّر في أنه موجود، يكرهه لدرجة أنه في مرّات كثيرة يتجاهل حديثه إليه، يتصرّف وكأنه غير موجود وكان ذلك يحرجنا جميعاً، كيف إستطاع تجاهله؟
وأنا أجلس على نفس المقهى متناولاً الصفحة الأخيرة من الجريدة، وجدت داروين يقول أن الرجل الأبيض جنس متطوّر من الرجل الأسود، حينها عرفت لماذا جاري الأبيض يكره جاري الأسود، الناس تكره ماضيها.
* كان أخي الصغير يسمّيني بالغبية، أحيانا يجعل منها أغنية من كلمة واحدة يلحّنها ويسلّي بها نفسه، كان يقول أني لا أجيد لعب كرة القدم ولا تسلّق الأشجار ولهذا أنا أغبى من رأى في حياته، بل وكان يريد منّي تأكيداً وإقراراً على ما ذهب إليه بقوله: عيب أن تنكري حقيقتك. شيئا فشيئا تعلمتُ كرة القدم وتسلّق الأشجار، وحينما لاحظ عليّ هذه المهارات الجديدة تصورتُ أن فكرته عنّي تغيّرت قليلاً وأحببت أن آخذ من فمه إعترافاً بذلك، لكنّه فاجأني ورفع حاجبيه وقال: عيشة راجل -وصف يُطلق على المرأة المسترجلة.
* كان الأب لا يحبّ أن يتدخل في شجارات أطفاله، ولكن في حالة ما إذا إرتفعت أصواتهم أثناءها فإنهم يعاقبون جميعاً، الظالم والمظلوم، توسّطهم ذات شجار، وكل واحد يريد أن يوصل له شكواه ومظلمته، ثم قال: لا يهمني ما تفعلونه، ما يهمني ألآ أسمع والجيران أصواتكم، ومنذ ذلك الحين راح كل واحد منهم يبحث كيف ينتقم من الآخر بضجيج أقل، وخفّ ضجيجهم فعلاً.
كبُر الأبناء وكبر إنتقامهم، ووصلت أنباؤه لغاية مركز الشرطة، حينها توسّطهم ناهياً: لا يهمني ما تفعلونه، يهمّني ألاّ يجرّني كل يوم ضابط الشرطة بسببكم، أصبحتُ فرجة الجيران. كانت آخر مرة يتوسّطهم فيها.
إجتمع الأبناء وقرّروا أن يريحوا والدهم عناء التنقّل اليومي لمركز الشرطة وطوّروا لذلك حيلة وفكرة، والمرة التالية التي زار فيها المركز لم يخرج منه بعد.
* كان في الغرفة المقابلة طفل يبكي، إرتفع صوته كثيراً، ثم بدأ يبكي بقوة إلى درجة أن بكاءه أخذ يصلني متقطّعاً بسبب تقطّع أنفاسه، حضرت امرأة وبدت أنها مستعجلة، إستوقفها بكاؤه وقطع مشوارها فهرعت صوبه، وصلني صوتها وهي تناغيه: لا تبكي يا صغيري، ما بك؟ مبلّل؟ دعني أرى، أنت جاف، لماذا تبكي إذاً، يبدو أنّك تتدلّل، هزّته قليلاً فهدأ، أعادته إلى سريره ثم عادت من حيث جاءت، ونسيت ما جاءت من أجله.
عدد الهزّات لم تكن كافية لتنسيه البكاء وعاد إليه من جديد، ثم بدأ بالصياح، لا يمكن لأحد أن يصدّق أن ذلك الصوت القويّ يصدر من طفل صغير، أخذت أنفاسه تتقطع بشكل كثيف. بالصدفة أيضا دخلت امرأة غير الأولى وسمعته يبكي وأسرعت إليه وأخذت تسمّي عليه بلهفة وتهزه وتضمّه إليها، هي أيضا حادثته: يا صغيري لماذا تركوك وحدك، أمّك مشغولة، لا تعاتبها، الله يعينها، لو تقطّع نفسها ألف قطعة لما تمكّنت من أن تنهي ما ينتظرها.
سكتَ سريعا، وكأنه فهم كلامها وعرفتْ كيف تراضيه، خرجتْ وأكملت طريقها للطابق العلوي.
لا تنتظر طفلا يسكت بسهولة، إنه شيء عريق في هذه العائلة، ضجيج كان يصلني من ساحة البيت، أصوات قرع طناجر، حنفيّة تُفتح وتُغلق، أطفال يلعبون بالماء، نساء يصرخن فيهم ويوبخنهم، بدأ يخفت الضجيج أمام تجدّد بكائه، دخلت طفلة صغيرة بحذاء أحمر يتزيّن بشريط جلدي على شكل لسان، تعثّرت به وقامت سريعاً، إهتمامها كان ناحية الغرفة التي ينبعث منها ضجيج الطفل، دخلت وكان صعباً عليها أن تصل إليه، السرير بجدران عالية وهي قصيرة، بدأت تتحدث معه، كان واضحاً أنها لا تتهجّى الحروف بشكل جيد، لكنها نجحت في أن تجعلني أسمع شبه ضحكة من الرضيع، لم تكن واضحة، لحظات ثم أصبحت واضحة، طفلة ماهرة بكل تأكيد، خرجت من عنده، جميعهن ليس لديهن الوقت ليبقين معه أكثر، وصلتْ عند سلّم الطابق العلوي وبدأت تبكي وتقول كلاما غير مفهوم، لكن تستطيع أن تفهم أنها تنادي أمها، أسمعها تصعد السلم ببطئ وتبكي، من الصعوبة أن تصل سالمة إلى أمّها، دعوتُ لهذه الصغيرة بالسلامة، توقّف بكاؤها وهذا ما جعلني أرجّح أن الخطر قد زال وقد وصلت سالمة.
نسيت أن أقول أن البكاء عاود الطفل قبل أن تصل الصغيرة سالمة إلى الأعلى، إنتبهتُ لـ مليك قادم إليّ، ابني الصغير، قبل أن يصل إليّ سقط وتكوّر مرتين من سرعته، لم ينتبه لبكاء الطفل، وقف عند الباب وقال: بابا وصلت سيّارات عمّو سمير، عمّه سمير سيكون زوج أختي، كان زفافهما ذلك اليوم، رمى عليّ الخبر وخرج مسرعاً، وقبل أن أستوقفه ليرى الطفل البكّاء كان قد إختفى.
تعطّرتُ سريعاً وخرجت أستقبل الضيوف القادمين لاصطحاب العروس إلى بيت زوجها، سلّمت على والد سمير بحرارة وجلسنا نتحدث ريثما يتم تجهيز العروس للخروج، وجدتني فجأة أشكو له بكاء الطفل الصغير وكيف أن الأطفال مزعجين لولا وجود النساء، قلت:
عندما يبكي طفل، لاإراديا تتجه النساء إلى إسكاته، يشكّل أولوية لديهم، لا يتحمّلن بكاءه ووجدن ليترفّقن به، حتى هو لا يفهم غيرهن.
ردّ على كلامي: النساء تُسكت حتى الكلاب التي تنبح، ليتسنّى لهن الكلام والحديث وحدهن.
* كثرت أخطائي مع الناس، ولم يحفظوا منّي غير الشرّ، وكنتُ إذا جلستُ مع الناس تفاخرت بما أذنبت، سخرتُ من فلان وتهكّمت على آخر، وتحايلتُ على جاهل غبي، فضاق صدري بعد أن عزمت أكثر من مرة على ألاّ أعود لمثل ذاك ولكن بقدر ما أحبس نفسي عن الأذيّة كنت أعود إليها، إلى أن رأيت أنه لم يتبق من العمر أكثر مما فات، فطلبت العذر والسماح من الناس وما كان منهم إلا أن فعلوا، ثم قرّرت أن أعتزل الناس حتى لا أفسد صفحهم عنّي، وفعلت ويا ليتني ما فعلت، فلم أنصرف عن الخطأ، لكن هذه المرة على نفسي، كان سهلا على الناس أن يسامحوني في حين هي لم تسامحني.
* في الشهور والسنوات الماضية كنت أنتقل بين القنوات الإذاعية والمحطّات الفضائيّة، في كل مرّة كان يخرج فيها المنشّط أو المذيع أجده ينقل خبراً مفاده أن:
ـ أمريكا قلقة بشأن أزمة دارفور.
ـ أمريكا قلقة إزاء التوتّر في إيريتريا.
ـ أمريكا توصي الجورجيين والروسيين بضبط النفس.
ـ أمريكا قلقة تجاه حقوق المرأة في العربية السعودية والعالم العربي.
ـ أمريكا منزعجة ومتخوّفة من ملف إيران النووي.
ـ أمريكا غير راضية عن المسار الديمقراطي في بلدان العالم الثالث.
قبل أيّأم خرج المذيع، وقد بدا عليه شخصيا القلق والتوتّر والخوف، يقول:
ـ أمريكا مريضة وتمرّ بأزمة مالية حادّة.
وجدتُ مرضها طبيعيا، فالإنزعاج والتوتّر والقلق ليست إلا أعراضاً لمرض قادم.
الكاتب: نوال يوسف يعلى.
المصدر: موقع رسالة المرأة.